التحديات الدينية في عصر العولمة

التحديات الدينية في عصر العولمة
كمال الدين نور الدين مرجوني

العولمة هي مصطلح يستخدم لوصف زيادة الترابط والتداخل بين الثقافات والاقتصادات في العالم، وهي عملية تجعل العالم أصغر، وتختصر المسافات، وتقرب كل شيء. هذا يتوافق مع تزايد قدرة الشخص في أحد أجزاء العالم على التفاعل، لتحقيق مصلحة مشتركة، مع أشخاص في أماكن أخرى من العالم (رولاند روبرتسون، 2000). وقد تلعب العولمة دوراً مهماً في دفع المسلمين إلى إعادة التفكير في معتقداتهم الجماعية حول الإسلام كدين شامل. إن مفهوم "دين واحد، ثقافة واحدة، وأمة واحدة" يؤكد أن الإسلام لا يعمل فقط كنظام اعتقاد شخصي، بل كدليل شامل للحياة يغطي الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية. في سياق العولمة، يشعر المسلمون حول العالم بأنهم جزء من مجتمع عالمي يتمتع بمهمة وأهداف مشتركة. قال الله تعالى في سورة الأنبياء الآية 92: "إِنَّ هَذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ" (الأنبياء: 92). ويؤكد ابن عاشور على أهمية التوحيد كركيزة للإيمان تميز الإسلام عن الأديان التي تشرك بالله. يشير هذا التفسير إلى كيف أن مفهوم وحدانية الله هو أساس وحدة الأمة الإسلامية رغم تفرقهم في ثقافات مختلفة (ابن عاشور، محمد الطاهر، 2000).

وتساعد العولمة المسلمين على اكتشاف أوجه التلاقي والاختلاف في تطبيقاتهم الدينية، مما يعزز فهمهم لمرونة الإسلام وقدرته على التأقلم مع مختلف البيئات. ورغم التنوع، يظل مبدأ التوحيد والقيم الإسلامية المشتركة رابطًا قويًا يوحد الأمة الإسلامية. ويناقش أوليفييه روا، مؤلف كتاب "العلمانية تواجه الإسلام"، كيف أن العولمة تتيح الفرص لبعض الجماعات للعودة إلى القيم الإسلامية التي تُعتبر أصيلة. بالنسبة لجماعات "الجدد الأصوليين"، تُعتبر العولمة أداة لتعزيز روابط الأمة من خلال التركيز على التعاليم التي تُعتبر أكثر "نقاءً" وتجاوز التقاليد المحلية التي قد لا تتوافق تمامًا مع الإسلام. هذا يُظهر أن العولمة لها وجهان؛ فمن جهة، هي تشكل تحدياً للتقاليد المحلية، ومن جهة أخرى، تقدم فرصة لتعزيز الهوية الإسلامية على نطاق عالمي.

وتمثل "الإسلاموية" توجهًا يسعى لتطبيق الإسلام كإطار شامل ينظم مختلف جوانب الحياة، ولا يقتصر على المجال الروحي أو الشعائر الدينية. بالنسبة لأنصار هذا التيار، فإن الشريعة الإسلامية ليست فقط مجموعة من المبادئ الدينية، بل هي أيضًا مصدر أساسي للسياسات والتشريعات التي ينبغي أن تُطبق في النظام السياسي والاجتماعي. ويعتبرون أن الإسلام يوفر حلولًا متكاملة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي يسعون إلى نظام حكومي يُدار وفقًا لأحكام الشريعة، ويعكس القيم والمبادئ الإسلامية في كل جانب من جوانب الحياة. وهذا المفهوم قد أثار نقاشات واسعة داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها، حيث يراه البعض وسيلة للحفاظ على الهوية الإسلامية وتعزيز العدالة الاجتماعية، بينما ينظر إليه آخرون بانتقاد، معتبرين أنه قد يقود إلى تفسيرات ضيقة قد تتعارض مع بعض مبادئ الحرية الفردية أو التعددية الفكرية.

ومع ذلك، هناك تنوع في وجهات النظر حول تطبيق الإسلاموية بين المسلمين، مما يعكس تنوعًا في الأيديولوجيات والاستراتيجيات بين مختلف الحركات الإسلاموية على المستوى الوطني والدولي. وهذا يوضح أنه رغم أن للإسلاموية هدفًا مشتركًا في تعزيز القيم الإسلامية في الفضاء العام، فإن اختلاف التفسيرات والمقاربات يؤدي إلى طيف من الحركات المختلفة على الساحة العالمية (غرينين، ليونيد، 2021).

وفي سياق الممارسة الدينية، فإن العولمة تجلب تحديات تتمثل في اتجاهين متطرفين: الإفراط (التطرف) والتفريط (الليبرالية). يُعتبر هذان الاتجاهان شكلاً من أشكال الانحراف عن مبدأ "الوسطية" الذي يحظى بتشجيع كبير في الإسلام.

وتُعدُّ الوسطية من أهم المبادئ التي تميز الإسلام ويعكس مرونته وقدرته على التكيف مع مختلف الظروف والأزمان. فالوسطية تتيح للمسلم أن يكون متوازنًا في تطبيقه لتعاليم الدين دون إفراط قد يؤدي به إلى الغلو والتشدد، ولا تفريط قد يؤدي به إلى الإهمال أو الانحراف عن جوهر الدين. وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم برسالة تدعو إلى هذا المنهج المتوازن، وهذا التوازن يجعل من الشريعة إطارًا مرنًا للحياة، يمكن المسلمين من التفاعل مع العالم بوعي واعتدال، ويعزز قدرتهم على مواجهة التحديات المعاصرة دون المساس بجوهر القيم الإسلامية. ومن خلال التمسك بمبدأ "الوسطية"، يُؤمل من المسلمين أن يكونوا قادرين على مواجهة تحديات العولمة مع الحفاظ على هويتهم الإسلامية. تقي الوسطية المسلمين من الاتجاه نحو التطرف، الذي يمكن أن يكون له آثار مدمرة، وكذلك من التحررية التي قد تفرط في تجاهل القيم الإسلامية الأساسية. وبهذا النهج، يستطيع الإسلام أن يظل ذا صلة وينسجم في السياق العالمي، معبرًا عن طبيعته كدين رحمة للعالمين. وتتوافق هذه التعاليم مع ما أكده القرآن الكريم: (وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ) -الأنبياء: 127-. وتؤكد هذه الآية رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم كحامل للرحمة التي تشمل جميع الخلق والكون. ويتماشى مبدأ "الرحمة للعالمين" مع جوهر الوسطية في الإسلام، حيث يدعو الأمة إلى ممارسة الدين بحكمة وعدل وتوازن. وبذلك، يصبح الإسلام قادرًا على المساهمة في السلام العالمي ويشكل نموذجًا في بناء علاقات صحية بين المسلمين والمجتمع العالمي.

الإفراط (التطرف) إن أحد الأمثلة على التطرف في تاريخ الإسلام هو جماعة "الخوارج" التي ظهرت خلال خلافة الخلفاء الراشدين. فقد انفصلوا بسبب عدم رضاهم عن قرار الصلح بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. ومن ثم اعتبَر الخوارجُ الفرقَ الأخرى، بما في ذلك الصحابة، كفاراً وأثاروا الرعب ضد من اختلف معهم في الرأي. وهنا يؤكد الإسلام على أهمية التوازن في الدين. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 143: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة: 143). وعلاوة على ذلك، حذر النبي محمد ﷺ من خطورة الغلو في العبادة، فقال: إيَّاكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. "إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين." (سنن ابن ماجه، رقم: 3020). قال إسحاق بن سويد: "كان عبد الله بن مطرف يُكثر من العبادة، فقال له مطرف: "يا عبد الله، العلم أفضل من العمل، والخير يكون بين سيئتين، وأحسن الأمور أوسطها، وأسوأ الطرق ما كان شديداً". ويعلق أبو عبيد قائلاً: "كأنما يقصد أن الإفراط في العمل هو أمر سيء، والتقصير فيه أيضاً سيء، أما الخير فيكون وسطاً، وهو الطريق المعتدل." (أبو بكر البيهقي، 2003).

فيما يلي بعض الأمثلة على مظاهر االإفراط والتطرف في الممارسات الدينية:

1. الإفراط في العبادة.
في عهد النبي ﷺ، كان هناك مجموعة من الصحابة قد بالغوا في العبادة. فصرح أحدهم بأنه لن ينام الليل ويستمر في العبادة، بينما قال آخر إنه سيصوم دون أن يفطر، وقرر آخرون الابتعاد عن الزواج للتركيز على العبادة. وعندما علم النبي ﷺ بذلك، وبخهم كما في الحديث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: بلغ النبي ﷺ أني أصوم الدهر وأصلي الليل. فإما أرسل إليَّ وإما لقيته، فقال: "ألم أُخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتقوم الليل؟ لا تفعل، فإن لعينك حقاً، ولنفسك حقاً، ولأهلك حقاً. فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من كل عشرة أيام يوماً ولك أجر تسعة". قال: إني أجدني أقوى من ذلك يا رسول الله. قال: "فصم صيام داود". قال: وكيف كان صيام داود يا رسول الله؟ قال: "كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى". (مسلم، رقم: 2791). من هذا الحديث، يتضح أن الإفراط في العبادة خارج منهج النبي ﷺ يعد نوعاً من التطرف.

2. الإفراط في إصدار الأحكام.
كذلك، يشمل التطرف الإفراط في إصدار الأحكام والافتراضات. فمثلاً، تحريم أشياء مباحة في الإسلام من باب الحذر المبالغ فيه قد يضر بمصلحة المجتمع. ومن أمثلة ذلك: تحريم جميع أنواع التعاملات البنكية، بما فيها الخدمات البنكية الإسلامية، مما يثير قلقاً ويضر بمصلحة الناس المحتاجين إلى خدمات مالية تتوافق مع الشريعة. أيضاً، تقييد نوع أو لون الملابس بذريعة البدعة يقيد حرية الناس في المظهر. ومنع التطعيم، خاصة خلال جائحة كوفيد-19، يعكس آراءً من بعض العلماء الذين يعارضون اللقاحات بدون أسس علمية قوية. كما أن بعضهم أصدر فتاوى تمنع اللقاحات، مما أدى إلى انعدام الثقة في الجهود الصحية العامة وتأثيرات صحية سلبية. وقد أكدت منظمة الصحة العالمية والعديد من الجهات الصحية على أن لقاحات كوفيد-19 قد اجتازت تجارب صارمة للتأكد من سلامتها. كما أن العديد من العلماء والمؤسسات الدينية الكبرى، مثل مجلس علماء إندونيسيا والأزهر الشريف، أيدوا التطعيم ضد كوفيد-19 كوسيلة شرعية لحماية النفس والآخرين.

والرفض للتطعيم يعكس انتشار ظاهرة معارضة اللقاحات في إندونيسيا وفي العالم بشكل عام. وتتعدد العوامل التي تقف وراء هذا الرفض من دولة لأخرى، حيث تتأثر بالعوامل الاجتماعية والثقافية، ومنها الدينية. في إندونيسيا، التي يشكل المسلمون الأغلبية فيها، كان القلق حول حلال مكونات اللقاح أحد أسباب الرفض.

إن إصدار فتاوى أو آراء ترفض التطعيم بدون أساس علمي خلال الجائحة يظهر الحاجة إلى التوعية حول الصحة وعلم الأوبئة. يمكن لاتباع النهج الوسطي في الإسلام أن يحقق توازناً بين الالتزام الديني والعلم، بحيث يلتزم الناس بالدين دون الإضرار بالصحة والسلامة العامة.

الآثار السلبية للتطرف في الدين

يُلاحظ تأثير الإفراط أو التطرف الديني من زوايا متعددة:

3. عدم التوازن الروحي: تؤدي العبادة المفرطة إلى الإرهاق البدني والنفسي وتؤثر على الصحة العامة. وقد يشعر الشخص بالثقل ويفقد الحافز، كما يمكن أن يتجاهل صحته وعلاقاته الاجتماعية.

4. تفكيك المجتمع: يخلق التطرف انقسامات، كما فعل الخوارج، حيث يفرق بين الجماعات ويعزز النزاع ويمنع التعاون، مما يهدد السلام والاستقرار.

5. تشويه صورة الإسلام: يؤثر التشدد في الدعوة أو تطبيق الشريعة على صورة الإسلام بشكل سلبي، مما يعزز الصور النمطية والسلبية ويضعف الحوار بين الأديان، متجاهلاً رسالة الإسلام الأساسية في السلام والتسامح.

بناءً على ذلك، فإن الإفراط أو التطرف يتعارض مع مبدأ الاعتدال في الإسلام. وتشمل سمات الإفراط الصلابة الزائدة، والعزلة، وإمكانية حدوث تطرف قد يؤثر على العلاقات الاجتماعية واستقرار الحياة. وعلى ذلك على الأمة الإسىلامية اتباع نهج وسطي لضمان سلام المجتمع وتجانسه.

وفي النهاية، فإن الإسلام يوصي بالوسطية والاعتدال للحفاظ على التدين الذي يتسم بالتوازن ويفيد المجتمع.

التفريط (الليبرالية)

التفريط، أو ما يُشار إليه غالباً بالليبرالية، يُعبر عن التهاون أو الإهمال في تطبيق التعاليم الدينية. هذا المصطلح يقابل الإفراط، الذي يعني التشدُّد أو المبالغة في ممارسة الدين. وفي سياق الإسلام، يعني التفريط التغاضي عن الواجبات والمبادئ الأساسية للتعاليم الدينية، حيث يفضِّل الفرد الحرية الشخصية، والعقلانية، وحقوق الإنسان، والتي غالباً ما تُربط بالفكر الليبرالي.

والجدير بالإشارة إلى أن التفريط في المفهوم الإسلامي يشير إلى التقصير أو التهاون في الالتزام بالواجبات الدينية أو الأخلاقية. وهو يأتي بمعنى التراخي في تطبيق الأحكام الشرعية أو إهمال بعض جوانب الدين.

بينما الليبرالية في سياق الحديث عن الفكر الاجتماعي والسياسي، تشير إلى فلسفة تؤكد على الحرية الفردية، وحقوق الإنسان، والتعددية.

وبالتالي، ليس من الدقة القول إن "التفريط هو الليبرالية" بشكل مباشر، ولكن يمكن أن يكون التفريط مرتبطًا بالتيارات أو الأفكار التي تدعو إلى تخفيف الالتزام ببعض الجوانب الدينية أو الاجتماعية، وهو ما قد يتماشى أحيانًا مع بعض أشكال الليبرالية التي تدعو إلى التحرر من القيود التقليدية. ومع ذلك، ليس كل من يحمل أفكارًا ليبرالية بالضرورة مفرّط في الدين، ولا كل تفريط مرتبط بالليبرالية.

وقد نشأت الليبرالية كنتيجة لعصر التنوير في أوروبا، حيث بدأ المفكرون بالمطالبة بالتحرر من القيود الدينية والسياسية. ويشجع هذا الفكر على حرية التفكير، والتعبير، والمبادئ الاقتصادية التي تركز على السوق الحرة. وفي السياق الديني، يُنظر إلى الليبرالية على أنها نهج أكثر انفتاحًا يسعى إلى التكيف مع التعاليم الدينية بما يتماشى مع القيم الحديثة وتطورات العصر (لوك دبليو جالن، 2016).

وظهرت الليبرالية كرد فعل غير واعٍ على ظلم الكنيسة والإقطاع، ثم تطورت في كل بلد بطريقة مختلفة، وأصبحت سببًا وراء الثورات الكبرى في العالم الغربي، مثل الثورة الإنجليزية، والأمريكية، والفرنسية. ومع ذلك، فإن نقاط التوافق بين التيارات ليست واضحة بما فيه الكفاية، كما يظهر من تنوع اتجاهاتها وأفكارها.

ويلاحظ أن الغموض الذي يحيط بمفهوم "الليبرالية" كثيراً ما يكون مصدرًا للجدل والخلاف. وفي هذا السياق، يمكننا التعمق في مفهوم الحرية في الليبرالية، وكذلك الآثار الناجمة عن التفسيرات المختلفة لهذا المفهوم. وكما ورد في "الموسوعة البريطانية"، أنها تعتبر الليبرالية مصطلحًا غامضًا، حيث يجد المفكرون والنشطاء سمات مميزة ومتنوعة داخلها، مما يجعل من الصعب تعريف الليبرالية بشكل دقيق، حيث يتم تفسيرها بطرق مختلفة من قبل تيارات وأفراد متباينين.

والجدير بالإشارة إن أن مبدأ الحرية كركيزة أساسية في الليبرالية، يُفهم ويُفسر بطرق مختلفة بين المجموعات. فمثلاً، تركز الحرية الفردية في السياق الليبرالي الكلاسيكي على التحرر من تدخل الدولة، بينما قد تركز مناهج أخرى على أهمية الحرية الاجتماعية والاقتصادية كشرط لتحقيق المساواة والعدالة. هذا الغموض قد يؤدي إلى نشوب احتكاكات بين التيارات المختلفة في الليبرالية، ويشكل أساسًا لمفاهيم تبدو متناقضة لكنها لا تزال تدعي أنها جزء من التقليد الليبرالي.

ومن أجل فهم هذه الاختلافات، يُطرح عادةً مفهوم الحرية السلبية والحرية الإيجابية. فالحرية السلبية، التي ترتبط عادةً بالتفكير الكلاسيكي كما عبر عنه جون ستيوارت ميل، تركز على تقليل أو إزالة القيود المفروضة من قبل الآخرين، بما في ذلك الدولة. من هذا المنظور، تُعتبر الحرية الفردية حقًا أساسيًا يجب حمايته من التدخل الخارجي. هذا النهج يُقدر الاستقلالية الشخصية ويشجع الحرية في التصرف وفق رغبات الفرد ما دام لا يضر بالآخرين. (لارسن، تيموثي، 2018).

وعلى النقيض من ذلك، تركز الحرية الإيجابية، التي طرحها مفكرون مثل إشعياء برلين، على تحقيق قدرة الفرد على إدراك إمكاناته. في هذا السياق، لا تكون الحرية مجرد غياب للقيود، بل تتعلق بتوفير الموارد اللازمة لتحقيق الأهداف والتطلعات الشخصية. وهذا يشمل التدخل النشط من قبل الدولة أو المجتمع لتهيئة الظروف التي تدعم الفرد في تحقيق حريته. ويمكن أن يؤدي الغموض والتناقض في مفهوم الحرية إلى نزاعات حادة بين التيارات الليبرالية المختلفة وغيرها من الأيديولوجيات. فمثلاً، الفاشية والنازية تدعيان أحيانًا بأن لهما أجندة حرية، رغم أنهما تقيدان الحرية الفردية لصالح المصالح الجماعية التي يحددها النظام أو الأيديولوجية. وبالمثل، يدعي الشيوعية أنها تمثل الحرية، من خلال التركيز على المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وإن كان ذلك يأتي أحياناً على حساب الحرية الفردية.

وعلى أية حال، فإن كل واحدة من هذه الأيديولوجيات تسعى إلى المطالبة بإرث ومبادئ عصر التنوير، الذي يُفترض أنه يدعم الحرية والتقدم. ومع ذلك، تظهر هذه النزاعات أن الحرية، رغم اعتبارها مكونًا أساسيًا لليبرالية، يمكن التلاعب بها لدعم أجندات سياسية متعارضة. وهذا يخلق جوًا من عدم اليقين والارتباك قد يضر بمحاولة بناء فهم شامل عن الليبرالية والحرية.

وفي التطبيق، يمكننا ملاحظة الرؤية الليبرالية الدينية تتمثل في:

6. التسامح مع الاختلافات:
إن التسامح مع الاختلافات في السياق الديني هو موقف يقبل تعدد تفسير التعاليم الإلهية، مشيرًا إلى أنه لا توجد طريقة واحدة صحيحة لفهم العقيدة. ويهدف هذا الموقف إلى تعزيز الوحدة، وتشجيع الحوار البناء، وخلق بيئة سلمية يشعر فيها الجميع بالقبول. ومع ذلك، فإن التسامح المفرط قد يجلب نتائج سلبية، مثل الغموض الأخلاقي، النسبية، تقليص قيمة الحقيقة، خطر فقدان الهوية الدينية، وقلة الحزم في الدفاع عن التعاليم الإسلامية. لذلك، من المهم البحث عن توازن بين التسامح والالتزام بالحقيقة، لكي يعيش المجتمع في وئام مع احترام معتقدات الجميع.

7. التأكيد على الحرية الفردية:
إن التأكيد على الحرية الفردية في السياق الديني ضروري لاحترام حقوق الإنسان وتعزيز النمو الروحي. هذه الحرية تمنح كل شخص الحق في اختيار وممارسة العبادة وفقًا لفهمه وقناعته الخاصة، مما يسمح للفرد باستكشاف علاقة أكثر أصالة مع التعاليم الدينية. ومع ذلك، فإن الحرية غير المحدودة قد تكون لها عواقب وخيمة، إذ يمكن أن تؤدي إلى إهمال الممارسات الشرعية الثابتة وتغيير القيم التقليدية. إذا ركز الأفراد بشكل مفرط على التفسير الشخصي دون النظر إلى التعاليم الأشمل، فقد يؤدي ذلك إلى التشرذم داخل المجتمع الديني. لذا من المهم تحقيق توازن بين الحرية الفردية واحترام الممارسات والضوابط الشرعية، بحيث يتم الحفاظ على الأهداف الروحية والجماعية في الدين.

ومن خلال تحقيق هذا التوازن، يمكن للمجتمع أن يعيش في انسجام، مع احترام تفرد الفرد، مع الحفاظ في الوقت ذاته على التقاليد الدينية الراسخة.

الخاتمة:

ونستطبع القول بأن العولمة تقدم ديناميكيات جديدة للمسلمين في ممارسة معتقداتهم. وهذا التغير يزيد من التفاعل بين الثقافات والاقتصاديات، ويجمع المسلمين على نطاق عالمي، مما يخلق ظروفاً تدفع المسلمين لفهم جوهر الدين كدليل شامل للحياة، يشمل الجوانب الروحية، والاجتماعية، والسياسية. وقد أشار القرآن الكريم، في سورة الأنبياء، الآية 92، إلى وحدة الأمة الإسلامية من خلال مفهوم التوحيد، الذي يعزز الترابط بين المسلمين حول العالم. كما أن العولمة تثير تحدِّيَّيْن مُتطرِّفيْن، هما الإفراط (التطرف) والتفريط (الليبرالية)، وكلاهما يعتبر انحرافاً عن مبدأ الوسطية الذي دعى إليها الإسلام. والتشدد في العبادة أو الرؤية القانونية، كما يظهر في سلوك الخوارج، يمثل تهديدًا لاستقرار المجتمع ووحدة الأمة. من ناحية أخرى، فإن التساهل الليبرالي تجاه التعاليم الدينية يمكن أن يطمس القيم الجوهرية للإسلام. والإسلام يدعو إلى التوازن في العبادة والمعاملات، كما يوضح في الأحاديث النبوية التي تحذر من مغبة الإفراط أو التفريط في الشريعة. وبتطبيق مبدأ الوسطية، يمكن للمسلمين أن يبقوا ثابتين في مواجهة التغيرات وتحديات عصر العولمة، مع الحفاظ على هوية الإسلام كرحمة للعالمين، مما يسمح للإسلام بالبقاء ملائماً ومعتدلاً وقابلاً للتكيف في بيئة عالمية متزايدة التعقيد، ويدعم السلام والرفاهية للعالم. والله أعلم