خلق العالم بين المتكلمين والفلاسفة المشائين كمال الدين نور الدين مرجوني
كمال الدين نور الدين مرجوني
اتفق علماء الإسلام على أن الله خالق لهذا العالم، وأن العالم مخلوق، غير أنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى الخوض في البحث عما إذا كان هذا العالم قد خلقه الله بطريق مباشر أى من العدم فيكون محدَثا، أو بطريق غير مباشر أى من المادة السابقة فيكون قديما. وانطلاقا من هذا انقسموا إلى قولين: منهم من يقول بحدوث العالم، وآخرون يقولون بقدمه؟
ومن هنا، كانت مسألة وجود العالم، من حيث هو قديم أم حادث، من بين أهم القضايا التي عرض لها مفكرو الإسلام على اختلاف فرقهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، فهي مشكلة رئيسة في الفكر الإسلامي، وكانت دائما مثار نزاع وجدل بين الفرق الإسلامية وخاصة المتكلمون منهم والفلاسفة. أما المتكلمون – ومنهم الشيعة الزيدية – فإنهم اعتبروا البحث في هذه القضية وإثبات حدوث العالم ووجوده بعد أن لم يكن موجودا، مدخلا ضروريا لإثبات وجود الله ووحدانيته، وما يتصل بذاته من صفات باعتباره خالقا موجدا، أو صانعا لهذا العالم بما فيه. فأجمعوا على القول بحدوث العالم( ).
ولهم على حدوثه أدلة كثيرة أشهرها دليل التميز بين الأعراض والأجسام معتمدين على الحركة والسكون والتغير في الأعراض، وضرورة ملازمة الأعراض للأجسام وكلاهما حادث فالعالم حادث( ). إلا أن المعتزلة فرقوا بين الماهية والوجود، قالوا : إن الماهية تسبق الوجود ، وإن المعدوم ذات شيء ، وقد نسب الشهرستاني هذا القول إلى الشحّام( ). وهذا القول يفضي إلى قدم المادة ( ) .
وأما الفلاسفة الإسلاميون من أمثال (الفارابي) و (ابن سينا) فقد ولّوا وجوههم شطر الوجود بما هو وجود أولا، سواء في جانبه المادي الطبيعي، أو في جانبه الروحي العقلي، أو الميتافيزيقي. فقالوا بقدم العالم ، وكانوا متأثرين في هذا المنحى بما نقل إليهم من آراء ومذاهب فلاسفة اليونان، وخاصة أفلاطون وأرسطو. ولخطورة رأي الفلاسفة تجاه هذه المسألة – أى القول بقدم العالم – قام الإمام الغزالي بتكفيرهم( ). وخلاصة قول الفلاسفة في ذلك: إن العالم موجود عن الباري تعـالى – أو واجب الوجود بذاته – على سبيل الوجوب واللزوم، لا بمعنى أنه لم يكن ثم كان، بل بمعنى أنه وجب وجوده بوجود ذات البـاري ، فلم تتقدمه ذات الباري بالزمان، وإنما تقدمت عليه بالذات، تقدم العلة على المعلول. وحجتهم في هذا، هي أن العالم إذا كان ممكنا في ذاته ووجد بغيره ، فقد وجب به، وهذا حكم كل علة ومعلول، وسبب ومسبب، فإن المسبب أبدا يجب بالسبب، فيكون جائزا باعتبار ذاته واجبا باعتبار سببه، ثم السبب يتقدم المسبب بالذات وإن كانا معا في الوجود، وذلك مثلما تقول تحركت يدي فتحرك المفتاح في كفي، ولا يمكنك أن تقول تحرك المفتاح في كفي فتحركت يدي ، وإن كانت الحركتان معا في الوجود( ).
وقد اعترض على هذا الرأي (الكندي) فقرر بأن العـالم حادث ، لأنه من إبداع الفاعل الأول، والإبداع هو الخلق من العدم أو على حدّ قوله: " تأييس الأيسات عن ليس "( ) . فالعالم محدَث من لا شيء ضربة واحدة في غير زمان ومن غير مادة، وهذا كله صدر بفعل القدرة المبدِعة المطلقة من جانب علة فعالة أولى هي الله تعالى، ووجود هذا العالم وبقاؤه ومدة هذا البقاء ، متوقفة كلها على الإرادة الإلهية الفاعلة لذلك، بحيث لو توقف الفعل الإرادي من جانب الله لانعدم العالم بضربة واحدة وفي غير زمان أيضا( ). وأما ابن رشد، فقد حاول أن يوفق بين رأي أرسطو في قدم العالم ورأي علماء الكلام، حيث ذهب إلى أن الخلاف بين الرأيين لا يعدو أن يكون لفظيا، لأن الموجود على ثلاثة أنواع، الأول: موجود محدَث، وهو ما يشاهد في العالم من الأشياء المتغيرة. والثاني: موجود قديم باتفاق الكل وهو الله تعالى. والثالث: موجود فيه شبه من الحادث والقديم وهو العالم، فشبهه للحادث لاحتياجـه إلى علة، وشبهه للقديم لوجوده من غير مادة سابقة ولا زمان ( ). إذن فالعالم عنده محدَث من حيث أنه معلول (عن الله )، وأنه قديم باعتبار أنه وجد عن الله منذ الأزل (من غير تراخ في الزمن)، أو بعبارة أخرى أن العالم بالإضافة إلى الله محدَث، وأما بالإضافة إلى أعيان الموجودات فقديم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ابن رشد يعتقد بقدم العالم بالمعنى الفلسفي( ).
ومن المستحسن هنا أن نحـدّد معنى (الخلق)، فالخلق في اللغة من خلق يخلق خلقا من باب نصر ، ويطلق لغة على عدّة معان:
- الأول: الإيجاد والإبداع والإختراع نحو خلق الله العالم، أي أوجده وأبدعه عن تقدير وحكمة.
- والثاني: التقدير نحو خلق الجلد والثوب ونحوهما، أي قدره وقاسه على ما يريد قبل العمل.
- والثالث: استمرار الأمر وال
- والرابع: الافتراء نحو خلق فلان القول، أي افتراه ومنه (ويخلقون إفكا).
- والخامس: الملموسة والليونة نحو خلق الشيء أي ملسه ولينه( ).
وأما في الإصطلاح فالخلق (Creation) هو الإيجاد أى إيجاد الشيء من عدم أو من شيء سابق، فهو مجرد صنع وإحداث، ومنه خلق الصورة الفنية.
وفرّق فلاسفة الإسلام بين الخلق بمعناه العام والإبداع الذي قصروه على الباري جل شأنه، وهو إيجاد الشيء من عدم (Creation ex nihilo) فهو خلق خاص، وبقاء العالم مساو لوجوده، فالله موجده وحافظه( ). إذن، فللخلق معنيان: الأول هو إحداث شيء جديد من مواد موجودة سابق كخلق الأثر الفني، أو خلق الصور الخيالية. والثاني هو الخلق المطلق هو صفة لله تعالى، لأنه موجد مبق وإبقاؤه مساو لإيجاده، يحدث العالم بإرادته، ويبقيه بإرادته، ولو لم يرد بقاءه لبطل وجوده.
ومما سبق يتضح أن الخلق هو: الإبداع من لا شيء، وهو مختص بالخالق ، لأنه هو الخالق من غير مثال سابق.
وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على قدرة الله في الخلق، لا على الخلق الأول من العدم فحسب، بل تشمل كذلك خلق العالم والإنسان، وكل ما هو كائن، وكل ما سوف يكون، فالله يخلق ما يشاء، كقوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ). يقول الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: "فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه. فلذلك قال جل ذكره: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا)( ). ويقول الإمام القشيري في تعليقه على هذه الآية: "سخر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شيء منها، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون، وبالنجم يهتدون، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون، لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته به يعرفون. ويقال مَهَّدَ لهم سبيل العرفان، ونبَّهَهُم إلى ما خصَّهم به من الإحسان، ثم علمهم علوَّ الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال: لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ وَلاَ لِلقَمَرِ -فصلت: 37-( ). وقوله : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ( ). فهذه الآية دليل على تفرد الله سبحانه وتعالى بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيهما، وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته( ).
وقوله : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً( ). وجاء الخطاب بيا أيها الناس: ليشمل جميع أمة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان. فضمير الخطاب في قوله (خلقكم) عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن، أي لئلا يختص بالمؤمنين إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفار العرب وهم الذين تلقوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأن الخطاب جاء بلغتهم، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم. فلما كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر، نودي جميع الناس، فدعاهم الله إلى التذكر بأن أصلهم واحد، إذ قال: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد، فالمقصود من التقوى في (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) اتقاء غضبه، ومراعاة حقوقه، وذلك حق توحيده والاعتراف له بصفات الكمال، وتنزيه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات( ).
وقوله : إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ). وقد صرح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثاً ولا باطلاً. ونزه نفسه تعالى عن ذلك( ).
وعلى أية حال، فإن الحكمة من خلق الله للعالم تعتمد على الإيمان والفلسفة التي ينظر إليها الفرد. فمن وجهة نظر دينية، يمكن اعتبار الحكمة من خلق الله للعالم هي لإظهار قوته وجماله وحكمته. وذلك في الإسلام أن المؤمن يؤمن بإيمان كامل بأن الله خلق الكون وما فيه بحكمة، وهدفه توجيه البشر إلى عبادته والاستمتاع بنعمه، واختبارهم في هذه الحياة. وأما من منظور فلسفي، قد يُنظر إلى الحكمة من خلق العالم بأنها تجربة للوجود والحياة، واكتساب المعرفة ،والتطور الروحي والمعنوي للإنسان. ويُمكن أيضًا رؤية الكون كمنظومة معقدة تعمل بتناغم وتوازن، مما يدل على وجود خطة أو ترتيب مُنظّم وراء الخلق. إذن فأن الحكمة من خلق الله للعالم هي موضوع ديني وفلسفي يُناقش على نطاق واسع في العديد من الثقافات والديانات. بالنسبة للكثيرين، يعتبرون أن الحكمة من خلق الله للعالم تتعلق بإظهار عظمته وقدرته الإلهية، بينما يرى آخرون في ذلك الفرصة لتجربة الحياة والنمو الروحي. تقدم الأديان والفلسفات مفاهيم متعددة حول هذا الموضوع، بما في ذلك الاختبار والتطهير، والخلق لغرض معين، والمحبة والرحمة. وبشكل عام، الحكمة من خلق الله للعالم قد تكون موضوعًا للتأمل والبحث، وقد تختلف تفسيراتها وفقًا للمعتقدات والاتجاهات الفكرية.
والله أعلم
الجمعة، ٢٦/٤/٢٠٢٦
بروناى دار السلام