الأثر الفلسفي اليوناني في الشيعة الإسماعيلية

الأثر الفلسفي اليوناني في الشيعة الإسماعيلية
كمال الدين نور الدين مرجوني
جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية
ملخص
إذا كانت الفلسفة الإسلامية تعدّ من أكثر المذاهب الإسلامية تأثرا بالفلسفة اليونانية. فإن الشيعة الإسماعيلية لم تكن أقل تأثرا بها، حيث لجأوا كثيرا مثل فلاسفة الإسلام إلى الفكر اليوناني، وخاصة الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وعلى هذا يحاول هذا البحث إبراز تأثير الفلسفة اليونانية على الشيعة الإسماعيلية، وسلك البحث المنهج الاستقرائي الوصفي والتحليلي، وذلك من خلال رصد نصوص كتب الشيعة الإسماعيلية، وأكَّد هذا البحث على تأثر الشيعة الإسماعيلية بالفلاسفة اليونانية وبخاصة في قولهم بالطبائع الأربعة، وتأثير الكواكب في المخلوقات لزعمهم أن الأفلاك والكواكب كائنات حية ناطقة. ومن ثم فالحقيقة يجب أن تقال بأن عقائد الشيعة الإسماعيلية هي مجموعة أفكار ملفقة من مذاهب الفلسفية، وكلها خبط واضطراب، فمذهبهم كان دخيلا ليس له صلة بالإسلام.
الكلمات المفتاحية: الأثر الفلسفي، الشيعة الإسماعيلية، الفلسفة الإسلامية.
تمهيد:
اطلع المسلمون ومفكروهم على فلسفة اليونان أو جزء منها على الأقل منذ العصر الأموي . فتأثروا بها لأخذهم معظم آراء أرسطو ، وأعجبوا بأفلوطين كثيرا وتابعوه في نواح عدة. وكانت الأفلاطونية المحدثة أكبر المذاهب أثرا في العالم الإسلامي( ). وقد بلغ تأثر جمهور فلاسفة الإسلام بمذاهب فلاسفة اليونان حدا جعلهم متابعين لهم في كثير مما انتهوا إليه في مباحثهم المنطقية والطبيعية والإلهية، وكانت مسألة وجود العالم من بين المسائل التي انتظمتها اليونان، وانتهوا فيها إلى القول بقدم العالم، وأن وجوده محايث لوجود الله تعالى، غير متأخر عنه بزمان أو مدة ، وممن تأثروا بهذا القول من فلاسفة الإسلام : الفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد( ). وقد جعل الإمام الغزالي مسألة قدم العالم وحدوثه على رأس المسائل الثلاث التي كفر بها الفلاسفة، كما يتضح في كتابه "تهافت الفلاسفة". ولم يقتصر تأثر فلاسفة الإسلام بمسألة قدم العالم وحدوثه، بل تأثروا كذلك بمسائل أخرى كمسألة النبوة، والمعاد. وقد صرَّح الشهرستاني في كتابه الملل والنحل هذا التأثر الفلسفي لعقيدة الشيعة الإسماعيلية قائلا: "أن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامه ببعض كلام الفلاسفة، إوصنفوا كتبهم على هذا المنهاج، فقالوا في الباري تعالى: انا لا نقول هو موجود، ولا لا موجود، ولا عـالم، ولا جاهل، ولا قـادر، ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات"( ). وقد أكَّد بذلك الدكتور إبراهيم مدكـور، فقال: "لا شك في أن الإسماعيلية من أكثر الشيعة درسا وبحثا، شاءوا أن يفلسفوا تعاليمهم، ففلسفوا معها العقيدة الإسلاميـة كلها، وأدخلوا عليها كلّ ما وقفوا عليه من أفكار أجنبية، بين شرقية وغربية، وبخاصة الأفلاطونية المحدثة"( ).
وانطلاقا من العنوان الرئيسي في هذا البحث وهو الأثر الفلسفي اليوناني القديم في الشيعة الإسماعيلة، فنقوم بتقسيم هذا البحث إلى مبحثين: المبحث الأول: لمحة عن الشيعة الإسماعيلية. والمبحث الثاني: تأثر الشيعة الإسماعيلية بالفلسفة اليونانية القديمة.
المبحث الأول
لمحة عن الشيعة الإسماعيلية
الشيعة الإسماعيلية فرقة من فرق الشيعة الكبرى -غير الزيدية والإمامية الإثنى عشرية-، ويعرف بالشيعة الباطنية لاعتقادها بأن للشريعة ظاهرا وباطنا( ). وأورد الإمـام أحمـد بن سليمان الزيديُّ في كتابه (حقائق المعرفة في علم الكلام) عن حقيقة المذهب الإسماعيلي قائلا: "وانتسب الباطنية إلى الإسماعيلية، وهم فرقة أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، وقالوا: لكل ظاهر باطن"( ). يقول الإمام الزيدي القاسم بن محمد: "وأما الباطنيـة: فإنـهم يظهـرون الإسـلام ويبطنون الكفـر، ولا يتقلدون بشيء من الشرائـع"( ). ويقول ابن الجوزي: "الباطنية قوم تستروا بالإسلام ومالوا إلى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام بالمرة، لكنهم يقولون لذلك سر غير ظاهر ... ثم يذكر أنها من الشيعة الإسماعيلية المنسوبة إلى زعيم لهم يقال له محمد بن إسماعيل بن جعفر"( ).
ويتبين من هذا التعريف أن الباطنية لقب خاص استخدم للدلالة على إحدى فرق الشيعة المنسوبة إلى الإسماعيلية، وتقول بالظاهر والباطن، وبوجوب تأويل الشريعة، لأن المراد منها الباطن دون الظاهر. فرفضوا الأخذ بظاهر القرآن.
ويجدر التنويه إلى أن مؤرخي الفرق في تقسيمهم لفرق الشيعة قد اتفقوا على وضع الغلاة كفرقة داخل الشيعة، وأن الإسماعيلية الباطنية توضع بين فرق الغلاة أحيانا – كما صنفها البغدادي – وتابعه في ذلك الدكتور برنارد لويس، وأحيانا أخرى تذكر كفرقة مستقلة من فرق الشيعة -كما صنفها الشهرستاني ونشوان الحميري( ) .
ومن ناحية أخرى، وقد لاحظ الدكتور محمد الجليند أن الإمام ابن تيمية لا يستخدم لقب "باطنية" عادة بمعنى محدّد لطائفة معيّنة، بل أطلقها لتشمل فرقا ومذاهب منها: الصوفية( ) والإسماعيلية( ) والفلاسفة( ) والجهمية( ). وغيرهم الذين يقولون بالظاهر والباطن، ذلك لأن المعيار الأساسي عند إطلاق لقب الباطنية لدى ابن تيمية هو القول بالتفسير الباطني للقرآن( ). وفي هذا استقرّ عند الدكتور عبـد الرحمن بدوي في تعريفه للباطنية بأنها: " لقب عام مشترك تندرج تحته مذاهب وطوائف عديدة، والصفة المشتركة بينها تأويل النّص الظاهر بالمعنى الباطن تأويلا يذهب مذاهب شتى، وقد يصل التباين بينها حدّ التّنـاقض الخالص، فهو يعني أن النصوص الدينية المقدّسـة رموز و إشارات إلى حقائق خفيّة وأسرار مكتوبة"( ). وذكر لوك بنوا مؤلف الكتاب المسمى بـ ( المذهب الباطني في ديانات العالم )، يرى أن التيار الباطني في الإسلام متمثلا في تعاليم الشيعة والتصوف، ويعتبر أن ابن عربي من أكبر شيوخ الباطنية العربية ومؤسّس الميتافيزياء العليا( ).
وعلى هذا الأساس، فكان استعمال لفظ (الباطنية) توسيعا لتشمل جميع الفرق والمذاهب الذين يدّعون بأن للقرآن ظاهرا وباطنا ، سواء كانوا من الفلاسفة أم الشيعة أم التصوف وغيرهم. وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على سعة تأثير الباطنية على الفرق الإسلامية، وأما عند تقييدها وتخصيصها لفرقة معينة فتعني بها الشيعة الإسماعيلية التي ردّت عليها معظم الفرق الإسلاميـة كالأشعرية، والمعتزلة، والشيعة الزيدية، والمذهب الأخير هو موضوع بحثنا.
ويقرر الباحثون الإسماعيليون الباطنيون المعاصرون -ومنهم الدكتور مصطفى غالب والدكتور عارف تامر- بأن ابن سينا كان على مذهب الإسماعيلية الباطنية، واستدلوا على ذلك بأن ابن سينا قد ولد من أبوين إسماعيليين وأنه درس على أبيه –وهو داعي مطلق للإسماعيلية– علم التأويل الباطني، كما درس على يد أبي عبد الله الناتلي المنطق والفلسفة، ولم يكن النتالي سوى عالم من كبار علماء وفلاسفة الإسماعيلية، وواضح من كلامه عن النفس والعقل مزيج من العقائد الباطنية( ).
والجدير بالذكر بأنه قد أخطأ بعض الباحثين في عزو الشيعة الزيدية إلى أنها من الفرق الباطنية، كما نشهد بذلك في كتاب (الحكومة الباطنية): "ومن الفرق الباطنية الزيدية التي تميزت بالمذهب العقلي "( ). فهذه النسبة غير صحيحة، لأنه من المعروف أن المذهب الباطني مذهب تعليمي، يعتمد على ما قاله الإمام، بينما الزيدية مذهب عقلي، إذن فهما متناقضان بعضهم بعضا، ولعل المؤلف لهذا الكتاب يقصد هنا بالجارودية من الزيدية، لأنهم الذين تطرفوا وغلوا في أمر الأئمة، ولكن بعد البحث أيضا لم نجد في آراء الجارودية أية إشارة تدل على قولهم بالظاهر والباطن.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هو متى ظهرت الباطنية كفرقة من فرق الإسماعيلية ؟
وأشارت مصادر كتب الفرق والملل والنحل إلى أن ميمون بن ديصان القداح – وكان مولى لجعفر الصادق – هو أحد المؤسسين للدعوة الإسماعيلية الباطنية، وهو يدعو إلى إمامة محمد بن إسماعيل، وكان على يده انتشرت دعوة الإسماعيلية الباطنية، ويحدثنا عن ذلك عبد القاهر البغدادي أن الباطنية ظهرت في أيام المأمون وانتشرت في زمان المعتصم، وأن الذين أسسوا دعوة الباطنية – كما حكى أصحاب المقالات – شخصيات أبرزها ميمون بن ديصان الملقب بـ (القداح)، و محمد ابن الحسين الملقب بـ (ذيذان أو دندان)، وكان ميمون مولى لجعفر بن محمد الصادق( ). وقد حدَّد الإمام محمد بن الحسن الديلمي( ) زمان الذي نشأت فيه الباطنية، فذكر على وجه التحديد بأن الباطنية نشأت سنة (250هـ)، ونص على ذلك قوله: "إن ابتداء وضع مذهب الباطنية سلط الله عليهم كان في سنة خمسين ومائتين من الهجرة، وضعه قوم تطابقوا وكان في قلوبهم بغض للإسلام وبعض النبي  من الفلاسفة، والمجوس، واليهود، وكان آخر دعاتهم ميمون القدح( ) .
ومما سبق يفهم أن دعوة الباطنية قد أسست على يد جماعة من الناس فمنهم الفلاسفة، والمجوس، واليهود، وأنها انتشرت على يد ميمون القداح، ذلك لأن مبادئ الباطنية لم تكن معروفة قبل ظهوره، فبزعامة ميمون القداح نظمت مبادئها السرية لأول مرة، فهو الذي يقوم بتنظيم هذه الفرقة داخل السجن، فوضع هو وأصحابه أنظمة الفرقة، وقاموا بتعليم دعاتها فيه، ولما خرج من السجن أرسل دعاتهم إلى المناطق المختلفة لينشروا مبادئهم وتعاليمهم الباطنية( ). غير أن بعض المصادر تشير إلى أن الباطنية ظهرت على يد ابنه عبد الله بن ميمون سنة، وهذا ما ذكره صاحب كتاب (كشف أسرار الباطنية) للحمادي( ) فقال: "وأصل هذه الدعوة الملعونة التي استهوى بها الشيطان أهل الكفر والشقوة، ظهور عبد الله بن ميمون القداح بالكوفة ... وكان ظهوره في سنة ست وسبعين ومائتـين (276هـ) من التاريخ للهجرة"( )، وتابعه في ذلك الإمام أحمد بن يحيى المرتضى، حيث قال: "وفشا مذهبهم بعد مائتين من الهجرة ، أحدثه عبد الله بن ميمون القداح ، وكان مجوسيا ، فتستر بالتشيع ليبطل الإسلام"( ).
ولكن الصحيح الأول، فظهرت الباطنية على يد ميمون القـداح الذي توفي حوالي سنـة (198هـ). وأما رواية الحمادي، فيرى الدكتور محمد عثمان الْخُشْت في تعليقه للنص أنه على حسب المصادر التاريخية العديدة يبدو أن المؤلف هنا يخلط بين ميمون القداح وابنه عبد الله ، فتارة يذكر عبد الله على أنه أصل هذه الدعوة الباطنية، وتارة يذكر أباه ميمونا( ). وفي موضع آخر لاحظ محمد بن الحسين الأكوع عند تعليقه للنص بوقوع الوهم والخطأ، ويرى أن الناسخ أخطأ في النقل عن المؤلف ، فظهور ميمون القداح قبل الستين ومائتين من الهجرة، وأورد ابن النديم في(الفهرست)( ) بأنه جـرت مكاتبة بين عبـد الله بن ميمون وقرمط سنة إحـدى وستين ومائتين (261هـ)، هذا إن أراد ميمون القداح، وإن أراد ولده عبد الله، فذلك أدخل في الإعجاز -كما يقال- فإن ظهوره بسجلماسة من الغرب سنة 296هـ وما يدل على وهم العبارة أن خروج ابن فضل ومنصور اليمن من الكوفة إلى اليمن سنة 268هـ( ).
وإلى جانب ذلك، فقد ذهب النَوْبَختي إلى القول بوحدة الحركتين الخطابية والإسماعيلية الباطنية( ). أو نقول بأن الإسماعيلية نشأت من الخطابية، بل ذهب القمي إلى أن الإسماعيلية الخالصة فهم الخطابية"( ). ذلك لما مات أبو الخطاب تحوّل أتباعه إلى محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق وعدّوه الإمام وأعلنوا ولاءهم له ، فكانت فرقـة الإسماعيليـة هي الخطابية نفسها( ). وقد أكد ذلك الإمام أحمد بن سليمان في حديثه عن الفرق الإمامية أن الإسماعيلية هم المباركية والخطابية، فقالت المباركية بإمامة محمد بن إسماعيل، وقالت الخطابية بإلهية جعفر( ). ورغم أن كُتّاب المقالات من أهل السنة لا يشيرون في كتاباتهم إلى وجود صلة مباشرة بين الخطابيـة والإسماعيلية، إلا أن ما أورده من عقائـد الخطابيـة يؤيد ما ذهب إليه النَوْبَختي من وحدة الحركتين، فالشهرستاني ينسب إلى الخطابية أسلوب التأويل الإسماعيلي لآيات القرآن الكريم( )، والأشعري ينسب للخطابية عقيدة الإمام الصامت والناطق وهي عقيدة اختصت بها الإسماعيلية( ). فكل هذه الشواهد المستمدة من التشابه بين العقائد المذهبية لكل من الخطابية والإسماعيلية تدلنا دلالة واضحة على وجود علاقة الخطابية والإسماعيلية( ). وأشار إلى ذلك أيضا الدكتور علي سامي النشار، إذ قال: "ولا شك أن الكثير من أصول الخطابية قد دخلت في عقائد الإسماعيلية فيما بعد، ولكن تم هذا بعد مقتل أبي الخطاب، واعتناق كثير من أتباعه للإسماعيلية في عهد عبد الله بن ميمون القداح"( ).
وعلى أية حال، فإن الباطنية تمثل إمتدادا لغلاة الشيعة ( ) الذين لم يقتصروا على القول بأن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله ، بل نجدهم يدّعون أنه في منـزلة النبوة كما يتضح فيما بعد، وفي ذلك يقول الدكتور محمد الجليند: "وأما الباطنية بمعناها المحدد كطائفة مخصوصة تسمت بهذا الاسم في تاريخ الفلسفة الإسلامية، فيعتبرها ابن تيمية امتدادا طبيعيا للغلو في التشيع، لأن الباطنية والقرامطة وجدتا في البيئة الشيعية التربة الخصبة والمناخ الصالح لتربية أفكارهم وحصاد نتائجها " ( ) . ويرى هنري كوربان أن المذهب الإسماعيلي الباطني هو أول مذهب عرفاني في الإسلام ( ) .
وفي موضع آخر، يرى الإمام محمد بن الحسن الديلمي أن عقيدة الباطنية كغيرها من الشيعة الغلاة تستمد مادتها الأولية من عقيدة الإمامية الإثنى عشرية . وقد صرّح بذلك قائلا: "إن أصول مذهب الغلاة والمفوضة والباطنية من الإسماعيلية والإمامية الإثنى عشرية مختلطة بعضها ببعض في كثير من المسائل، ولذلك قيل: الإمامية دِهليز الباطنية( )، لأن الكل دخلوا في الشيعة من جهتهم، وكلهم يدعون التشيع ويغلون في الدين ويخرجون من طريق المسلمين"( ) . ويرى الإمام أبوا القاسم محمد الحوثي ( ) أن مذهب الغلاة والمفوضة، هم الذين مهدوا مذاهب الباطنية( ) .
والغلاة كما عرفها الشهرستاني: أنهم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقة، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية، فربما شبهوا واحدا من الأئمة بالإله، وربما شبهوا الإله بالخلق وهم على طرفى الغلو والتقصير( ).
والملاحظ أن غلاة الشيعة بعد أن بدأوا بفرقة واحدة صاروا بعد ذلك فرقا وطوائف مختلفة، ولكن رغم هذا التفرق وذلك الاختلاف، إلا أن عقائدهم مشتركة وأفكارهم متشابهة، وكان أول فرق الغلاة هي السبئية ثم جاء بعدها غلاة الكيسانية. وكانت أهم اتجاهات الغلو في التشيع هي: الغلو السبئي والكيسانيـة، والغلو الإسماعيلي الباطني، والغلو المنشق عن الإثنى عشرية. المبحث الثاني
تأثر الشيعة الإسماعيلية بالفلسفة اليونانية القديمة
أورد الدكتور فرهاد دفتري (Farhad Daftary)( ) في كتاب حرّره بعنوان:"الإسماعيليون في العصر الوسيط"( ) أن دخـول الأفكار الفلسفية اليونانية إلى العقائد الباطنية تتم على أيدي دعاتهم من أمثـال: الداعي أبو حـاتم الرازي، والداعي محمـد بن أحـمد النسفي، فقد قام هذان الداعيان وخلفاؤهما، وهم الذين بدأوا مع أبي يعقوب السجستاني بالدعوة باسم الأئمة -الخلفاء الفاطميين- بدمج لاهوتهم الإسماعيلي، بطريقة أصيلة عالية المستوى بصيغة من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة كانت سائدة آنئذ في إيران وما وراء النهر"( ).
وعلى هذا الأساس، فيؤكد لنا الدكتور هاينز (Heinz Halm)( ). على تأثر الإسماعيلية الباطنية بالفلسفة اليونانية، ومدعما رأيه بأن ستانيسلاس غوريار (S. Guyard) قد توصل في كتابه حول عقائد الإسماعيليين إلى الاستنتاج بأن عقائد الإسماعيليين كانت مبنية على الفلسفة اليونانية ( ).
ويتضح مدى تأثر الباطنية بالفلسفة اليونانية استخدمهم للمصطلاحات الفلسفية، كتعبيرهم عن الله بالمحرك الأول، وتعبيرهم عن الوجود والموجود بـ (أيس) ، وتعبيرهم عن العدم والمعدوم بـ (ليس)، وتعبيرهم عن الأنا الشخصية بـ (الإنية) ، فكل هذه التعبيرات الفلسفية استخدمها واصطلح عليها الدعاة الإسماعيليون( ). ومن العناصر الأفلاطونية الحديثة التي اقتبسها الإسماعيلية هي فلسفة الفيوضات وترتيبها، ومن ثم، فمن يقرأ كتب الإسماعيلية الباطنية يجد نفسه أمام الفلسفة الأفلاطونية الحديثة ( ).
وأخذت الإسماعيلية عن أفلاطون نظرية المثل التي تقول: بأن ما في العالم الحسي أشباح لمثل في العالم العلوي. فقال الإسماعيلية: إن ما في عالم الدين مُثُل لممثولات في العالم الروحاني( ). وهذا بعينه نظرية الأفلاطونية نقلها الإسماعيلية إلى مذهبهم، فما من مثل إلا وله ممثول، حتى طبقوها على أئمتهم فقالوا: إن الإمام الباقر محمد بن علي وهو الرابع من الأتماء، مثل المضقة في الروحانية مقابلا لموسى كليم الله، ومقابل للشمس في الفلك الرابع، ولما كان الرابع من الأتماء كان الحسن بن علي  ممثول الطالع ، والباقر  ممثول الرابع( ).
وكذلك أخذ الإسماعيلية رأى الأفلاطونية الحديثة في الإبداع وظهور النفس الكلية عن العقل الكلي، وأن العالم خلق بواسطة اللوجوس (الكلمة) فجاء الإسماعيلية وقالوا: إن الكلمة التي خلق عنها العـالم هي كلمة (كن) التي وردت في الآية القرآنية : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( ). وأن كلمـة (كن) مكونـة من الكاف والنـون ، فالكاف رمز على القلم أو العقل الكلي ، والنون رمـز على اللـوح أي النفس الكليـة، وبهذا فسر الإسماعيليـة قولـه تعـالى: ن وَالْقَلَمِ( ) . أن الله يقسم بأعز مخلوقين عنده وهما اللوح والقلم( ).
ومن ناحية أخرى ، يلاحظ هودكسون أنه قد أضفى الإسماعيلية على التأويل مشربا واحدا، وذلك في استخدامه في أغراض ثلاثة كبيرة مترابطة، فهو يمثل تصورا للكون مشتقا من مصادر أفلاطونية حديثة، وهو يفسر الآخـرة تفسيرا تاريخيا يقوم على الدين، والدورات، وأحيانا بالتناسخ( ) . وأخيرا فهو يبرز طبقات المشايخ للفرقة الذين تقابل درجاتهم على تفاوت الدرجات العديدة للتصور الأفلاطوني المحدث للكون( ). والواقع أن فلسفتهم الطبيعية بما فيها من أفكار عن العالم العضوي والعالم غير العضوي، وعلم النفس، وعلم الحياة وما إلى ذلك، فإنها تستند إلى فلسفة أرسطو، ولا تختلف عنها في جوهرها ( ) . كما يعتمد الباطنية جزءا من آرائها على الفيثاغورية ( ) فكان لفكرة الأعداد والحروف مكان واضح في أفكارهم ولدى طوائفهم المختلفة، والتي تعتبر الحروف رموزا ترمز إلى أعداد ، والأعداد ترمز إلى حروف، كما اعتبرت أن للحروف خصائص خاصة( ). و يتجلى ذلك بوضوح في عدة المؤلفات الإسماعيلية الباطنية كـ "كتاب الافتخار" للداعي أبي يعقوب السجستاني( ) . وكتاب "إثبات الإمامة" للداعي أحمد النيسابوري( ). وكتاب "راحة العقل" للداعي حميد الدين الكرماني وهو تلميذا للأول( ). ويذكر الدكتور مصطفى غالب أهمية فكرة الأعداد لدى الباطنية أنها مطابقة لصور الموجودات وأنها أول ما أيدت به النفس من المعلومات، وأنها الطريق الحقيقي إلى التوحيد، فسائر العلوم موجودة في علم العدد، لأن العلوم تابعة للعدد، وهو أصل لها كلها، وهي فروع له، وهو القول الذي تفرعت عنه المقولات، وشجرة اليقين، ومبدأ الشرع والدين، وعليه بنيت الصلوات، وبه عرفت العبادات، وبه يعرف الزمان( ).
وانطلاقا من أهمية هذه الفكرة –الأعداد والحروف– فيمكن القول إن النـزعة الباطنية التي تميزت بها الفلسفة الفيثاغورية انسجمت مع ميول الإسماعيلية، ولذا وجدت استجابة لها لدى الكثيرين من مفكري الشيعة الإسماعيلية( ). وفي ذلك يرى الدكتور علي سامي النشار أن الفيثاغورية المحدثة من أهم المصادر الإسماعيلية في مختلف صورها، وبالإضافة إلى الأفلاطونية( ).
والسؤال المطروح بنفسه –ونحن بصدد الحديث عن أثر الفلسفة في الشيعة الإسماعيلية– ، هو ما الدافع إلى اهتمامهم بالفلسفة اليونانية القديمة؟.
اختلف الباحثون في الإجابة على هذا السؤال ، فيرى إيفانوف (W. Ivanov) أن الأسباب التي دفعت الباطنية إلى اهتمامهم بالفلسفة ترجع إلى رغبتهم في حلّ إشكالية التوفيق بين فكرة التوحيد والثنائية الموجودة في العالم بين الخير والشر، حيث إن أبرز عناصر المذهب الإسماعيلي هي الفلسفة الأفلاطونية الجديدة المستقاة على نحو مباشر من تاسوعات أفلوطين، أو من شراحه المتقـدمين، ولكن من بعض النسخ المتأخرة التي زيفت إلى حدّ كبير واختلطت بمسائل مختلفة الأجناس، وقد حاولت الإسماعيلية أن تجد في الفلسفة الأفلاطونية حلاّ يوفق بين فكرة التوحيد وأثنينية العالم الظاهر( ). ويرى الدكتور محمد إقبال أنهم يلجأون إلى الفلسفة لمحاولتهم تفسير التعاليم الدينية من جديد( ). ومن هنا، اقتبسوا الفكر الفلسفي من فلاسفة الإغريق، وأدخلوها على نظامهم الفكري الإسلامي"( ). ولذلك إذا استقرأنا مؤلفات الإسماعيلية نجد أنها تزخر بنظرات فلسفية إلى الكون والوجود .
وقد رجع الدكتور محمد الجليند اهتمام الشيعة الإسماعيلية بالفلسفة إلى اتفاقهم في قضية التأويل الرمزي، فقال: "وكان معظم اهتمام الباطنية بالفلاسفة يرجع إلى اتفاقهم وإياهم على ردّ نصوص الأنبياء وتأويلها إلى رموز مغلقة ، لا معنى لها لدى السامع العربي"( ).
ويمكن القول، إن ما سبق ذكره من آراء العلماء المحدثين في محاولتهم لتفسير اهتمام الباطنية بالفلسفة، كلها صحيحة، وذلك لأن الباطنية مذهب توفيقي، فحاولوا أن يوفقوا بين عقائد الأديان، بطريق التأويل، ليتوصلوا في النهاية إلى إنشاء دين جـديد على راية أو علم باسم (الباطنية).
وأما الشيعة الإسماعيلية الباطنيون أنفسهم – كما يرى الدكتور مصطفى غالب– فرأوا أنهم دعموا معتقداتهم الدينية بنظريات فلسفية وتأويلات باطنية، اكتسابا أو استنباطا، فأصبحت الفلسفة بنظرهم وسيلة لتقييم العقيدة( ). واستنادا إلى هذا الرأي، فهم يعتبرون الفلسفة فوق الشريعة، حيث أعرضوا القضايا الدينية على ميزان الفلسفة، إذن فالدين في نظر الباطنية محل اعتبار من قبل الفلسفة، فما ترى الفلسفة من الدين صحيح فهو صحيحا، وما تراه باطلا فهو باطل. ومن جانب آخر يذكر الدكتور عارف تامر أن علماء الإسماعيلية استعملوا الفلسفة للتعبير عن الدين، إذ يقول: " نهلوا من ينابيع المدرسة اليونانية الفلسفية، والمشائية، وما خلفه أرسطو، وأفلاطون، وأفلوطين، وفيتاغوريس، وحكماء الإسكندرية ... واستخدموها في التعبير عن تعاليمهم الدينية"( ). ويفهم من هذا النص أن الدين لا يستطيع أن يعبر عن نفسه. وإنما يحتاج إلى تعبير فلسفي . وهذا في الحقيقة بعيد عن الصواب، فلا يحتاج الدين إلى المساعدة في التعبير عنه، فقد عبر نفسه بأدلة عقلية والبراهين اليقينية، يقول الإمام ابن تيمية: "والقرآن مملوء من الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية على المعارف الالهية، والمطالب الدينية"( ).
ومن هنا، لا وجه للمقارنة بين أدلة القرآن وبين أدلة الفلاسفة والمتكلمين، لا سيما الاستعانة بأدلتهم في التعبير عن الدين.
وخلاصة القول، قد اتضح من خلال هذا العرض ، مدى تأثير المذاهب الفلسفية اليونانية على الإسماعيلية الباطنية ، ولذلك نستطيع القول بأن أصولها الفكرية ليست من الإسلام في شيء، وإنما عبارة عن مجموعة من التصورات الفلسفية وعقائد الأديان المغايرة له، ففكرهم فكر وافد ، وفلسفة طارئة على الدين. إذن فلا تعدو أفكارهم عن الفكر اليوناني بمذاهبها المختلفة، فأخذوا عن أرسطو، وأفلاطون، وأفلوطين، وفيثاغوري.
والحقيقة – كما يرى القاضي ابن العـربي – أنهم يعتقـدون رأى الفلاسفة للنيل من الإسلام( ). ثم تظاهروا بالعقلانية اقتداء بالمعتـزلة. مع أن هناك فارقا كبيرا بينهم وبين المعتزلة في استخدامهم العقل، فالمعتزلة يلجأون إلى العقل للدفاع عن الدين ، بينما هم يستخدمونه لتقويض أسس جميع الأديان( ).
وفي ذلك يقول دوزي عن ابن ميمون القداح في جعلهم رجال الفلاسفة في المقام الأول كالمؤيدين للدعوة الباطنية:" لم يبحث ابن ميمون عن أنصاره الحقيقيين بين الشيعة الخلص ، ولكن بين الثنوية والوثنيين وطلاب الفلسفة اليونانية، ولم يكن يعتمد إلا على الطائفة الأخيرة، وإليهم وحدهم استطاع أن يفضي بسره، وخفي عقيدته"( ). فعلماء الإسماعيلية عولوا على طلاب الفلسفة في تفهم دعوتهم ، لأنهم تحرروا عل الأقل من محبة الشريعة، والتعصب لها، وصار عندهم بعض الاستعداد للتنكر لها، فبعض الآراء الفلسفية التي اعتقدوها لم تكن توافق العقيدة( ).