سبب الجدل الفكري في الإسلام

في الفكر الإسلامي ما يعرف بــ "علم الجدل"، وهو من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف، ومأخوذ من الجدل الذي هو أحد أجزاء مباحث المنطق لكنه خص بالعلوم الدينية . ويمكن جعل علم الجدل والخلاف من فروع علم أصول الفقه . ويعتبر جزءًا من التراث الإسلامي، وقد استُخدم منذ البدايات لتبيان الحق والتواصل بفعالية مع الآخرين. وقد تحدثت الآيات القرآنية وتظهر أهمية استخدام الحكمة والموعظة الحسنة في المناظرات والجدل. يقول الله سبحانه وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ -النحل: 125- وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ -العنكبوت: 46- فهذه الآيات تشدد على ضرورة التعامل بحكمة وأدب عند مناقشة القضايا الدينية مع الآخرين، سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم، وتحث على استخدام الجدل بطريقة تتسم بالأخلاق والإحترام. وخير مثال على ذلك قصة مناظرة النبي محمد  مع نصارى نجران حيث تظهر كيف قام النبي  بتبيان رسالته بحكمة وموعظة حسنة، وهي قيمة مشهود

لها في تاريخ الدعوة الإسلامية. والجدل الفكري في الإسلام يعكس التنوع والتعدد في الآراء والمدارس الفكرية داخل الأمة الإسلامية المتمثلة في الفرق الإسلامية منها: الشيعة وفرقها، الخوارج، والمعتزلة، والأشعرية، والماتريدية، والظاهرية. ويقرر الإمام سعد الدين التفتازاني بأن المعتزلة أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف في الفكر الإسلامي . ويمتد هذا الجدل على مر العصور ويرتبط بمجموعة واسعة من الموضوعات، بدءًا من قضايا الإلهيات، والنبوات، والسمعيات، بالإضافة إلى الأمور السياسية المعروفة بقضية "الإمامة". وخير مثال على الخلافات والنزاعات الدائمة عند الفرق الإسلامية عبر عصور طويلة حتى يومنا هذا، هو الحديث عن الصفات الإلهية، فوجدنا كل فرقة تدافع عن رأيها مجرد الدفاع المتعصب دون النظر بآراء الآخرين، ويكون همهم الأكبر هو الإنتصار على الآخرين، والسبب في ذلك عدم معرفة مقاصد العقيدة وعدم النظر إلى محل النزاع. وتظهر هذه التنوعات في الجدل الفكري أهمية التفاوض والحوار بين الفرق والمدارس المختلفة في الإسلام. الجدل ليس فقط طبيعيًا ومحوريًا في التفكير الإسلامي، ولكنه أيضًا يعزز التطوير الفكري والاستيعاب لمواكبة التحديات المعاصرة. ويرجع سبب الخلاف عند مختلف الاتجاهات العقائدية الإسلامية إلى تعدد مناهجم في تناول قضايا العقيدة الإسلامية أبرزها ثلاثة أصول: وهي تقديم العقل على النقل مطلقا كما هي منهج المعتزلة والزيدية، أو تقديم العقل على النقل عند التعارض كما هو واضح عند الأشعرية والماتريدية، وأما النصوص الشرعية فهي عندهم أدلة لفظية لا تفيد اليقين. وعلماء تلك الفرق تسمى بعلماء الكلام أو المتكلمين. وبالإضافة إلى منهج علماء السلف وكانوا ضد استخدام العقل في البحث عن العقيدة الإسلامية فمنهجم قائم على تقديم النقل على العقل مطلقا . وبهذ، فإن علماء الكلام يرون أن العقل هو المنطلق الأساسي الذي يجب أن يصدر عنه إثبات مسائل العقيدة، ومن أهمها إثبات الصانع وأسمائه وصفاته. فاعتمد المتكلمون في الاستدلال على وجود الله تعالى على أساس حدوث هذا العالم، واحتياجه إلى محدث هو الله تعالى، لهذا بذلوا جهدا كبيرا في إثبات حدوث العالم، والرد على من قال بقدمه. وقد سلكوا في ذلك طرقا متعددة، حصرها صاحب المواقف في أربع طرق، فقال: "قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، وقد يستدل بكل واحد منهما، إما بإمكانه أو بحدوثه، فهذه وجوه أربعة:
- الأول: الاستدلال بحدوثه الجواهر: وهو أن العالم حادث، وكل حادث فله محدث.
- الثاني: بإمكانها: وهو أن العالم ممكن، لأنه مركب وكثير، وكل ممكن فله علة مؤثرة.
- الثالث: بحدوثه الأعراض، مثل ما نشاهد من انقلاب علقة، ثم مضغة، ثم لحما ودما، إذ لا بد من مؤثر صانع حكيم.
- الرابع: بإمكان الأعراض : وهو أن الأجسام متماثلة، فاختصاص كل بما له من الصفات جائز، فلا بد في التخصيص من مخصص له" .

ويشرح المتكلمون طريق الحديث، فيقولون بأن العالم مركب من جواهر فردة وأعراض، وأن الأعراض لا تبقى زمانين متتالين، وإنما يطرأ عليها التغيير والتحول فهي حادثة، والجواهر لا تتعرى عن الأعراض التي هي ملازمة لها، وما دامت الجواهر لا تنفك عن الأعراض فهي حادثة بحدوثها، لأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث . وما دام العالم مكونا من الجواهر والأعراض -وقد ثبت حدوثها- فالعالم حادث، وإذا ثبت أن العالم حادث كان لا بد له من محدث يخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود.

ونلاحظ أنهم يقدمون بكل هذه المقدمات ليدللوا على قضية اعتبرها القرآن الكريم قضية فطرية في الإنسان، ولا يخفى أن الاستدلال بهذه المقدمات قد كلف أصحابه جهدا كبيرا، إذ لزمهم أن يطيلوا البحث في إثبات الجوهر، وفي إثبات الأعراض وأنها حادثة، ثم في إثبات لزومها للجوهر، كل ذلك ليتم لهم إثبات حدوث العالم بكل ما فيه. ولا شك أن هذا المسلك مع ما عليه من مآخذ واعتراضات مسلك شاق يصعب تصوره على المتخصصين فضلا عن الجمهور، وفيه من الطول، والخفاء ، واللبس، والإبهـام مالا يخفى.

ومن هنا انتقد هذه الطرق كثير من المفكرين منهم: الفيلسوف الإسلامي ابن رشد (تـ 595هـ) في كتابه "مناهج الأدلة"، والإمام ابن تيمية (تـ 727هـ) في كثير من كتبه وبالأخص كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، وتلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه "مدارج السالكين" وغيرهم من العلماء. فأبطل ابن تيمية هذه الطريقة في الاستدلال على وجود الله، وبين أنها سبب في كل ما التزم المتكلمون من متناقضات في الصفات الإلهية وغيرها، وقد التزموا لأجلها نفي صفات الله مطلقا أو بعضها، والقول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله تعالى في الآخرة، وعلوه على عرشه، إلى أمثال ذلك من اللوازم الباطلة التي التزموها .

وأما الصوفية فطرقهم ليست نظرية – أي غير مركبة من مقدمات ونتائج – وإنما يزعمون أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون بظواهر من الشرع، مثل قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمَ اللهُ -البقرة: 283-، وقوله تعالى: وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوْا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِيْنَ -العنكبوت: 69-. ومن هنا يرى الصوفية -كما يحدثنا الإمام الغزالي- أن التوحيد من علم المكاشفة، وأنه بحر خضم لا ساحل له، وله أربع مراتب: تبدأ باللسان، ثم القلب، ثم الكشف، وأخيرا الفناء، حيث لا يرى الموحد في الوجود إلا الله، ويحذر من الخوض في هذه المرتبة الأخيرة . وهذا واضح في كتابه إحياء علوم الدين:
"فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له فنقول، للتوحيد أربع مراتب وينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر، ولنمثل ذلك تقريبا إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا فإن له قشرتين وله لب، وللب دهن هو لب اللب، فالرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين، والثانية أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام، والثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار، والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحدا وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والخلق. فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف والسنان، والثاني موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه، وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح، ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفى عليه ولم تضعف بالمعاصي عقدته، ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف ويقصد بها أيضا إحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلاما، والعارف به يسمى متكلما، وهو في مقابلة المبتدع، ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام، وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمى بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته، والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلا واحدا إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلا بالحقيقة إلا واحدا وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لأنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين، إذ لم يفارق المتكلم العامى في الاعتقاد بل في صنعة تلفيق الكلام الذي به حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة، والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد فالأول كالقشرة العليا من الجوز، والثاني كالقشرة السفلي، والثالث كاللب، والرابع كالدهن المستخرج من اللب ... ".ولهذا تختلف نظرة الصوفية للتوحيد عن غيرهم، فالعامة يعبرون عن إيمانهم بإثبات الوحدانية لله بنفي الشريك والشبيه، أما المتكلمون والفلاسفة فيتناولون التوحيد من الناحية النظرية في الغالب، بينما الصوفية ينظرون إلى التوحيد على أنه تجربة دينية حية، ومن ثم اتجهوا إلى البحث عن معرفة حقيقته وحكمته. ذلك في رأيهم أن التوحيد كمبدأ روحي، يتصل بحرية الإنسان وتحريره من القيود الحسية، ليترقى في المعراج الروحي أو المقامات، منطلقا إلى الحق المطلق" . وقد انتقد ابن رشد هذه الطريقة الصوفية بأنه إن سلِّم وجودها فهي ليست عامة، ولو كانت هي المقصودة بالناس لبطل النظر، ولكان وجودها بالناس عبثا. والقرآن الكريم إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار، والتنبيه على طرق النظر .

وبالمقابل للمتكلمين، جاء الحنابلة السلفية بمعارضتهم، حيث يرون بأن العقل والنقل لا يتعارضان، وكذلك بين الأدلة النقلية بعضها بعضا، فلا تعارض بين الكتاب والسنة من ناحية، ولا تعارض بين الأحاديث النبوية فيما بينها من ناحية. وفي هذا انتقد ابن تيمية القول بوقوع التعارض بين العقل والنقل في كتابه الضخم "درء تعارض العقل والنقل" وتابعه ذلك تلميذه ابن قيم الجوزية، حيث قال: "إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة – أي إبليس -، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه، فإن الله لما أمره بالسجود لآدم، عارض أمره بقياس عقلي ... ثم تتبعه الفلاسفة والجهمية ومن تأثر بهم من المتكلمين" . وأوضح ابن القيم في موضع آخر أن القائلين بوقوع التعارض بين العقل والنقل، إنما وقعوا في ذلك نتيجة جهلين عظيمين: جهل بالوحي، وجهل بالعقل .

المراجع والمصادر


- القنوجي، صديق بن حسن، 1978م، أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، تحقيق: عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2/208.
- التفتازاني، سعد الدين، 2020، شرح العقائد النسفية، دار التقوى، دمشق، سوريا، 102.
- مرجوني، كمال الدين نور الدين، 2014م، العقيدة الإسلامية والقضايا الخلافية عند علماء الكلام، بيروت-لبنان، دار الكتب العلمية، ص 28-33.
- الإيجي، 1997، كتاب المواقف، لموقف الخامس، دار الجيل، بيروت، لبنان،3/13.
- الباقلاني، 1407هـ، الإنصاف، طبعة عالم الكتب، بيروت، لبنان، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، ص 27 – 28.
- الإسفراييني، 1403هـ، التبصير في الدين، طبعة عالم الكتب، تحقيق : كمال يوسف حوت، ص 153-154.
- ابن تيمية، 1405هـ، درء تعارض العقل والنقل، طبعة درا الكتب العلمية، 1/89، 176، 225.
- ابن تيمية، 1402هـ، النبوات، طبعة دار الكتب العلمية، 1402هـ، ص 60.
- كرم أمين أبو كرم، 1997، العبادة عند محي الدين بن عربي، دار الأمين، القاهرة .
- الغزالي، 2004م، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 4/245-246.