في مستهل سورة البقرة يتحدث القرآن عن المقاصد العامة للعقيدة الإسلامية وهي حصول الهداية والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، حيث يقول الله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ -البقرة: ١-٥-. واضح من هذه الآية أن المفلحين هم المؤمنون الذين آمنوا بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة، وآمنوا بالغيب وباليوم الآخر، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن المقاصد الإلهية وغاياتها هي إثبات وحدانية الله تعالى والعبادة له وحده، كما ورد هذا الأمر في الآية الخامسة من سورة الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال قتادة -كما نقله ابن كثير في تفسيره-: "(إياك نعبد وإياك نستعين) يأمركم أن تخلصوا له العبادة، وأن تستعينوه على أمركم. وإنما قُدِّم: (إياك نعبد) على (وإياك نستعين) لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يُقدَّم ما هو الأهم فالأهم" . وعن أهمية مقاصد العقيدة كما بينه الإمام الغزالي قائلا: "ترجمة العقيدة
التي لا بد أن ينطوي عليها قلب كل مسلم، بمعنى أنه يعتقده، ويصدق به تصديقا جزما، ووراء هذه العقيدة الظاهرة رتبتان: إحداهما معرفة أدلة هذه العقيدة الظاهرة من غير خوض على أسرارها، والثانية: معرفة أسرارها، ولباب معانيها، وحقيقة ظواهرها" . وأن من لم يكن حظه من معاني أسماء الله تعالى إلا بأن يسمع لفظه، ويفهم في اللغة تفسيره ووصفه، ويعتقد بالقلب وجود معناه في الله تعالى فهو مبخوس الحظ، نازل الدرجة، ليس يحسن به أن يتبجح بما ناله. فإن سماع اللفظ لا يستدعي إلا سلامة حاسة السمع التي بها يدرك الأصوات، وهذه رتبة يشارك البهيمة فيها. وأما فهم وضعه في اللغة، فلا يستدعي إلا معرفته العربية، وهذه رتبة يشارك فيها الأديب اللغوي، بل الغبي البدوي. وأما اعتقاد ثبوت معناه لله تعالى من غير كشف، فلا يستدعي إلا فهم معاني هذه الألفاظ والتصديق بها. وهذه رتبة يشارك فيها العامي، بل الصبي .
وقد علَّل الإمام سعد الدين التفتازاني أهمية مقاصد العقيدة وأهدافها التي عبّره في كتابه بــ "مقاصد الكلام" بأنه ليس في العلوم الإسلامية ما هو أليق ببيانه من مبحث الإلهيات، والكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية ... وغايته تحلية الإيمان بالإيقان، ومنفعته الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد ... وغاية الكلام أن يصير الإيمان، والتصديق بالأحكام الشـرعية، متيقناً، محكوماً، لا تزلزله شبه المبطلين. ومنفعته في الدنيا: انتظام أمر المعاش، بالمحافظة على العدل، والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد، وفي الآخرة: النجاة من العذاب المترتب على الكفر، وسوء الاعتقاد .
وعلى هذا التعليل يظهر من هذه الأهداف السامية لمقاصد العقيدة كما قررها الإمام سعد الدين التفتازاني بأنها تقَوِّي الإيمانَ وتوَفِّر المنافعَ في الدنيا من الرضا، والطمأنينة القلبية، وإقامة العدل الذي يؤدي إلى حصول الخير والبركة، والشعور بالإستقرار في البلاد بين الحكومة وبين أفراد الشعب والمجتمع، فيحصل الوئام بين الحاكم والمحكوم، والقضاء على المشاكل الإجتماعية. وفي الآخرة الفوز بالجنة والنجاة من النار. وعلى ذلك يظهر من هذه الأهداف السامية لمقاصد العقيدة أنها توفر كل ما يبعث على الرضا والطمأنينة والبعد عن التطرف الفكري والعملي. ومهما يكن من أمر، أن السير في مواجهة الحياة بمختلف أنواع العقبات والتحديات فيها، فإنه يكفي اللجوء إلى الله وترك كل شيء له. حيث يقول الله تعالى: أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ -الزمر: ۳٦-.
وبيَّن ابن تيمية أهمية التحصيل العلمي بالإعتماد على الجانب المقاصدي قائلا: "جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي ، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علما وما سواه إما أن يكون علما فلا يكون نافعا؟ وإما ألا يكون علما وإن سمي به. ولئن كان علما نافعا فلا بد أن يكون في ميراث محمد ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه. ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه. فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى، ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك" .
والسؤال الذي يطرح بنفسه، كيف نثبت هذا المقصد في الإلهيات؟ يرى الإمام أبو منصور الماتريدي بضرورة تنزيه الله تعالى عن الأنداد والأشباه، وعما لا يجوز عليه، يقول في (كتاب التوحيد): "وإذا ثبت القول بوحدانية الله تعالى والألوهية له، لزم القول بتعاليه عن الأشباه والأضداد، إذ في إثبات الضد نفى إلهيته، وفي التشابه نفى وحدانيته، والله واحد لا شبيه له، دائم قائم لا ضد له ولا ند، وهذا تأويل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ -الشورى: 11- . إذن، فالآية تدل التنزيه بنفي المثيل والنظير لله ، لا في أسمائه، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله.
وأوضح الإمام أبو منصور الماتريدي بأن علم المقاصد العقائدية يتوقف على استقراء نصوص الآيات القرآنية، وقراءتها قراءة متأنية أى متفحصة (Scanning)، وليست قراءة عابرة (Skimming)، والغوص حول المعاني الخفية بالتأمل والبحث العميق، وهذا التأمل يؤدي في النهاية إلى مقاصد العقيدة التي عبر عنها بمصطلح (لب التوحيد) ، ونص قوله: "ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس، يوصل إليها بالتأمل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة، التي يغني من له اللب دخولها تحت الحواس - عن تكلف العلم بها بالتدبير، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم؛ فيلزم طلب ذلك؛ فيبطل به قول من قال: العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب، ولا يلزم الخطاب دون تولى الرب إنشاءَ العلم في القلوب بحقيقه ما فيه الخطاب؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب، ويستوفي فيه الموصوف باللبِّ وغير الموصوف، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر، وقد قال اللَّه : وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ -آل عمران: 191-، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما ظهر، إذ لزم التفكر بالذي أظهر؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعلمه، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهرًا مستغنيا بظهوره عن الطلب، وخفيًّا يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل. وفي ذلك دليل لزوم التوحيد باللبِّ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك، وأوَّل درجات الآيات أن يُعَرف منشئها وجاعلها آيات" . وذلك في رأيه أن "إهمال كل ذي لبٍّ -لا يؤمر ولا ينهى- خروج عن الحكمة" .
والجدير بالذكر، أنه لم ينل الحديث عن مقاصد العقيدة اهتماما مثل الحديث عن مقاصد الشريعة، وذلك أن الأحكام الفقهية أحكام عملية غير محصورة وتحتاج إلى الإجتهادات، علما بأن الوقائع والمستجدات متغيرة ومستمرة وتقتضي اللجوء إلى عملية القياس الفقهي. فالتغير المستمر يجعل الحاجة إلى الاجتهاد ملحة أكثر من أجل إعطاء هذه المستجدات حكماً شرعياً. وهذا بخلاف أحكام العقيدة فإن أحكامها علمية ثابتة لا تتغير، لأنها محصورة محدودة، بل ذهب الإمام السمعاني إلى القول بمنع الإجتهاد في العقيدة، ونص قوله: "إن الحوادث للناس والفتاوى في المعاملات ليس لها حصر ولا نهاية، وبالناس إليها حاجة عامة، فلو لم يجز الاجتهاد في الفروع وطلب الأشبه بالنظر والاعتبار، ورد المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة لتعطلت الأحكام وفسدت على الناس أمورهم، والتبس أمر المعاملات على الناس، ولابد للعامي من مفت فإذا لم يجد حكم الحادثة في الكتاب والسنة فلابد من الرجوع إلى المستنبطات منهما فوسع الله هذا الأمر على هذه الأمة وجوز الاجتهاد، ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات، لأنها محصورة محدودة قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة، فإن الله تعالى أمر في كتابه وعلى لسان رسوله باعتقاد أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نقصان عنها، وقد أكملها بقوله (اليوم أكملت لكم دينكم) فإذا كان قد أكمله وأتمه وهذا المسلم قد اعتقده وسكن إليه ووجد قرار القلب عليه فبماذا يحتاج إلى الرجوع إلى دلائل العقل وقضاياه" . ومن هذا المنطلق وجدنا كثيرا من العلماء المعاصرين وبخاصة الباحثون في العلوم الشرعية الفقهية المعاصرة قاموا بالدراسات والبحوث المقاصدية في جميع جوانب الأحكام الشرعية أو الفقهية المتعلقة بالعبادات، والإقتصاد، والأسرة، والجريمة، والقضاء والشهادة وغيرها. فركزوا اهتمامم بالوقائع والمستجدات الحياتية المختلفة في المجتمع فهما واجتهادا لمعرفة مراد الشارع ومقاصد أحكامه، ومصالح الدنيا والآخرة. بل أكد الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه "مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة" بأن مقاصد الشريعة تحتل منزلة هامة في الفكر الشرعي، ولذلك أصبحت علما أساسيا من العلوم الفقهية، ألفت فيها المؤلفات، وفصلت فيها الأقوال، وتوسعت فيها الآراء، وأصبح الدارس للعلوم الفقهية، والطامح فيها إلى مراتب الفهم السديد، والنظر البعيد، بل له مراتب التفقه والاجتهاد لا مناص له من أن يدر علم المقاصد ويتفقه فيه . وفي موضع آخر يتساءل الدكتور أحمد الريسوني عن قلة البحث في مقاصد العقيدة: "وأنا إلى الآن أتعجب وأتساءل: كيف ظهر في المسلمين علم مقاصد الشريعة، ولم يظهر فيهم علم مقاصد العقيدة؟ ولقد كدت أستسلم لمقولة (الواقع لا يرتفع)، ولكن نظرا لأهمية القضية وخطورتها وشدة إلحاحها على، بدأت أفكر وأقتنع بأن هذا الواقع لابد أن يرتفع. فإذا لم أكن أنا متخصصا في مجال العقائد، ولا قادرا على التفرغ له، فلأكن فيه داعيا ومناديا. وفي هذا السياق تأتي إثارتي لهذه القضية ودعوتي إلى بحثها ومعالجتها فيما يستقبل من مسيرة البحث المقاصدي" . يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان : "الأمور تبع المقاصد ودليل هذه حديث "إنما الأعمال بالنيات" . يقول سلطان العلماء -الإمام عز الدين عبد السلام-: "ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن" .
مما سبق من أهمية دراسة مقاصد العقيدة، فنحن بأمس الحاجة إلى تطويرها ونشرها، وذلك أن للفكر المقاصدي في العقيدة الإسلامية أهمية كبيرة، لأن الله لم يشرع ما شَرَع من المسائل الإعتقادية إلا لأهداف وغاياتٍ يُرِيدها. وعدم الإهتمام بهذا الأمر يؤدي إلى الإنغلاق الفكري وجموده. وكفي ما نحن عليه اليوم من تفرق وتشتت مستمر لا نهاية له، ومن خلافات فكرية إلى خصومات فكرية بل إلى معادة تؤدي إلى اللعن، والتضليل، والتفسيق، بل التكفير بعضنا بعضا، وهذه الظواهر نشاهدها أشدّ الخلافات العقائديّة القائمة بين الفرق الإسلامية، بل وبين داخل فرقة واحدة، ومن الغريب إذا نظرنا إلى كلا الفريقين المتخاصمين أنهم كلهم يعظمون الله ويعبدونه حق عبادته، وهذا يبدو من وجهة نظرنا لأنهم غابوا عنهم معرفة المقاصد العقائدية.
المراجع والمصادر
- ابن كثير، 1999م، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر والتوزيع، الملكة العربية السعودية، 1/135.
- الغزالي، 2020م، الأربعين في أصول الدين، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ص 16.
- الغزالي، 1987م، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، دار الجفان، قبرص، ص 45.
- التفتازاني، سعد الدين، 1998م، شرح المقاصد في علم الكلام، تحقيق و تعليق: عبد الرحمن عميرة، بيروت: عالم الكتب، 1/163-175.
- ابن تيمية، 2005م، مجموع الفتاوى، دار الوفاء، 10/664.
- الماتريدي، أبو منصور، 2001م، كتاب التوحيد، تحقيق: بكر طوبال أوغلي، محمد آروتشي، دار صادر، بيروت-لبنان، مكتبة الإرشاد،استانبول-تركيا، ص 89.
- مرجوني، كمال الدين نور الدين، معجم الكمال للمترادفات، 231-232، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، 2021م.
- الماتريدي، أبو منصور، 2005م، تأويلات القرآن، دار الميزان، اسطانبول-تركيا، 2/509.
- السمعاني، 1996م، الإنتصار لأصحاب الحديث، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ص 33.
- عبد المجيد النجار، 2008م، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي، بيروت-لبنان، ص 13.
- أحمد الريسوني، 2005م، البحث في مقاصد الشريعة -نشأته، وتطوره، ومستقبله، بحث مقدم لندوة مقاصد الشريعة، التي نظمتها مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، من 1 إلى 5 مارس.
- الشنقيطي، 1995م، أضواء البيان، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، 5/301.
- عبد السلام، عز الدين، 1991م، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، مكتبة الكليات الأزهرية، ص 5.